فصل: (فرع: الجزم في النية ضروري)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[مسألة: نية الزكاة عند دفعها]

ولا يصح أداء الزكاة إلا بالنية، وبه قال عامة الفقهاء.
وقال الأوزاعي: (لا يفتقر أداؤها إلى النية، كالدين).
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5]. فأخبر أن العبادة لا تصح إلا بالإخلاص، و (الإخلاص): إنما هو النية، والزكاة من العبادات.
ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى».
ولأنها عبادة تتنوع فرضًا ونفلًا، فكان من شرطها النية، كالصلاة، والصوم، والحج.
إذا ثبت هذا: فالعبادات التي تفتقر إلى النية على ثلاثة أضرب:
ضرب: لا يجوز تقديم النية عليها، ولا تأخيرها عن ابتدائها، وهي: الطهارة، والصلاة، والحج.
وضرب: يجوز تقديم النية على ابتدائها، وهو الصوم، وهل يجب تقديمها على طلوع الفجر، أو يجوز بنيته مع طلوع الفجر؟ فيه وجهان، يأتي ذكرهما في (الصوم).
وضرب: اختلف أصحابنا في جواز تقديم النية على ابتدائها، وهي الزكاة، والكفارات - قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في (الكفارة): (وينوي مع التكفير أو قبله) والزكاة مثل الكفارة:
فمن أصحابنا من قال: يجب أن ينوي حال الدفع، وبه قال أصحاب أبي حنيفة؛ لأنها عبادة يدخل فيها بفعله، فلا يجوز تقديم النية على ابتداء الفعل فيها، كالصلاة، وفيه احتراز من الصوم.
وتأول هذا القائل قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أو قبله): أنه أراد: أن ينوي قبله، ويستديم تلك النية إلى وقت الفعل.
ومنهم من قال: يجوز أن تتقدم النية على الدفع؛ لأن التوكيل يجوز في أداء ذلك، وبنية غير مقارنة لأداء الوكيل، فلو قلنا: لا يجوز تقديم النية.. لأدى إلى إبطال التوكيل فيها.
ومحل النية: القلب، فإن نوى بقلبه، وتلفظ بلسانه.. فهو آكد، وإن نوى بقلبه، ولم يتلفظ بلسانه.. أجزأه، وإن تلفظ بلسانه، ولم ينو بقلبه.. ففيه وجهان، حكاهما في "الإبانة" [ق\126]:
أحدهما: لا يجزئه، كسائر العبادات المفتقرة إلى النية.
والثاني: يجزئه؛ لأنها عبادة يجوز فيها النيابة، بخلاف الصوم والصلاة.
وأما كيفية النية: فإن نوى أن هذا زكاة مالي، أو صدقة مالي، أو فرض تعلق بمالي، أو هذا واجب علي، أو زكاتي.. أجزأه. وإن نوى أن هذا زكاة.. فذكر المسعودي [في "الإبانة" ق\126] بأنه لا يجزئه. وإن نوى أن هذه صدقة.. لم يجزئه؛ لأن الصدقة قد تكون نفلا، وقد تكون فرضا، فلم تصح بنية مطلقة.
وإن تصدق بجميع ماله، ولم ينو بشيء منه الزكاة.. لم يجزئه عن الزكاة.
وقال أصحاب أبي حنيفة: يجزئه استحبابا.
دليلنا: أنه لم ينو الفرض، فلم يجزه، كما لو صلى مائة ركعة بنية التطوع، فإنها لا تجزئه عن الفرض.
وإن تصدق ببعضه.. لم يجزه أيضا، وبه قال أبو يوسف.
وقال محمد بن الحسن.. يجزئه عن زكاة ذلك البعض.
دليلنا: ما ذكرناه فيما إذا تصدق بالكل.
وإن أخرج خمسة دراهم، ونوي بها الزكاة والتطوع.. قال ابن الصباغ: لم يجزه عن الزكاة، وكانت تطوعا، وبه قال محمد بن الحسن.
وقال أبو يوسف: يجزئه عن الزكاة.
دليلنا: أنه أشرك في النية بين الفرض والنفل، فلم يجزه عن الفرض، كالصلاة.

.[فرع: دفع زكاة مالين حاضر وغائب]

وإن كان له من الدراهم نصاب حاضر، ونصاب غائب، فأخرج خمسة دراهم، ونوى أنها عن الحاضر أو الغائب، أو عن الغائب، إن كان سالما، وإن كان تالفا، فعن الحاضر.. أجزأه؛ لأنه لا يجب عليه تعيين المال المخرج عنه.
وإن نوى أنها عن الغائب، إن كان سالما، ولم ينو غير هذا، فإن كان سالما أجزأه. وإن كان تالفا.. قال في "الأم": (لم يكن له أن يصرفه إلى زكاة غيره)؛ لأنه عينها لذلك المال، فهو كما لو كان عليه كفارة، فأعتق عبدا عن كفارة أخرى عينها ليست عليه.. فإنها لا تجزئه عن التي عليه.
قال في "الأم": (ولو دفع عشرة دراهم إلى الوالي متطوعا بدفعها، فقال: هذه عن مالي الغائب، فبان تالفا قبل الوجوب، فإن كان قد فرقها الوالي.. لم يرجع عليه بها، وإن كانت في يده رجع عليه بها).
قال ابن الصباغ: وفي هذا نظر؛ لأنه إذا استحق الرجوع بها من الوالي.. استحقه من الفقراء، قال: وهذا محمول إذا شرط ذلك في الدفع.
وإن قال: هذه زكاة مالي الغائب، وإن كان سالما، أو تطوع.. لم يجزه عن الفرض وإن كان ماله سالما؛ لأنه لم يخلص النية للفرض.
وإن قال: إن كان مالي الغائب سالما.. فهذا عن زكاته، وإن لم يكن سالما.. فهو تطوع، فإن كان المال سالما.. أجزأه؛ لأنه لم يشرك بين النفل والفرض.

.[فرع: الجزم في النية ضروري]

إذا كان له من يرثه، فأخرج خمسة دراهم، وقال: هذه زكاة ما ورثت عنه، إن كان قد مات، أو نافلة، فبان أنه قد مات.. لم يجزه؛ لأنه قد أشرك في النية بين الفرض والنفل، ولأنه بناه على غير أصل؛ لأن الأصل فيه الحياة.
وإن قال: هذه زكاة ما ورثت عنه، وكان قد مات.. لم يجزه أيضا؛ لأن الأصل فيه الحياة.
ولو باع مال مورثه قبل أن يعلم بموته، فبان أنه كان قد مات.. فهل يصح بيعه؟ فيه قولان:
أحدهم - وهو الصحيح -: أنه لا يصح؛ لأنه باع وهو متلاعب.
والثاني: يصح؛ لأنه بان أنه باع ما يملكه، والفرق بين الزكاة والبيع على هذا: أن الزكاة تفتقر إلى النية، فلذلك لم يصح، قولا واحدا، والبيع لا يفتقر إلى النية فلذلك صح في أحد القولين.

.[فرع: وجوب نية المزكي ووكيله]

وإن وكل من يؤدي الزكاة عنه.. نظرت:
فإن نوى رب المال عند الدفع إلى الوكيل، ونوى الوكيل عند الدفع إلى المساكين.. أجزأه، وإن لم ينو واحد منهما، أو نوى الوكيل دون الموكل.. لم يجزه؛ لأن من عليه الفرض لم ينو، وإن نوى الموكل ولم ينو الوكيل.. فاختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: يجزئه، قولا واحدا؛ لأن التوكيل لما أجيز هاهنا.. أجزأت النية عند الاستنابة.
ومن أصحابنا من قال: فيه وجهان، بناء على الوجهين في جواز تقديم النية. والصحيح: أنه يجوز تقديمها.
قال ابن الصباغ: وإن أذن له أن يؤدي الزكاة عنه من مال الوكيل.. لم يجزه إلا بنية من الوكيل عند الدفع.

.[فرع: كفاية نية المؤدي]

وإن دفع رب المال الزكاة إلى الإمام.. نظرت:
فإن نويا جميعا أو نوى رب المال دون الإمام.. أجزأه؛ لأنه قد نوى من وجبت الزكاة عليه.
وإن نوى الإمام دون رب المال، أو لم ينو واحد منهما.. ففيه وجهان:
أحدهما: وهو المنصوص -: (أنها تجزئ عن رب المال)؛ لأن الإمام لا يأخذ إلا الواجب، فاكتفي بهذا عن النية.
والثاني - حكاه القاضي أبو الطيب، واختاره -: أنه لا يجزئه؛ لأن الإمام نائب عن الفقراء، فكما لا يصح الدفع إليهم إلا بالنية من رب المال، فكذلك إذا دفع إلى النائب عنهم.
وإن امتنع رب المال من دفع الزكاة، فأخذها الإمام منه قهرًا.. نظرت:
فإن نوى الإمام عند الأخذ.. سقطت الزكاة عن رب المال في الظاهر، وهل تسقط عنه فيما بينه وبين الله تعالى؟ فيه وجهان.
وإن أخذها الإمام من غير نية منه.. لم يسقط الفرض عن رب المال فيما بينه وبين الله تعالى، وهل يسقط عنه في الظاهر؟ فيه وجهان. حكى ذلك المسعودي [في "الإبانة" ق \ 126].
وإن أخرج ولي اليتيم الزكاة عن اليتيم من ماله بغير نية.. لم يجزه، ووجب على الولي ضمانها؛ لأنه فرط في ذلك.

.[مسألة: الصدقة والعشر والزكاة بمعنى]

قال الصيمري: كان الشافعي في القديم يذهب إلى: أن ما يؤخذ من المواشي يسمى صدقة لا غير، وما يؤخذ من الثمار والزرع يسمى: عشرا، وما يؤخذ من الذهب والورق يسمى: زكاة قال: فراعى ما عليه الناس في التسمية في الغالب، ثم رجع عنه، وقال: (الصدقة زكاة، والزكاة صدقة، والعشر زكاة وصدقة).
إذا ثبت هذا: فإن كان رب المال هو الذي يفرق زكاة ماله بنفسه.. لم يعط العامل شيئا؛ لأنه لا عمل له.
ويجب أن يصرف جميع ما يوقف عليه إلى باقي الأصناف المذكورين في الآية، الموجودين في البلد، وهم: الفقراء، والمساكين، والمؤلفة قلوبهم، والمكاتبون، والغارمون، وفي سبيل الله، وابن السبيل، فإن أخل بصنف منهم.. ضمن نصيبه، وبه قال عمر بن عبد العزيز، والزهري، وعكرمة.
وذهبت طائفة: إلى أن ذكر الأصناف في الآية ليس للاستحقاق، وإنما هو على وجه التخيير، فإلى أي صنف منهم دفع.. جاز. ذهب إليه الحسن البصري، وعطاء، والضحاك، وسعيد بن جبير، ومالك، وأبو حنيفة، وروي ذلك عن حذيفة، وابن عباس، إلا أن مالكا - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: (يدفع إلى أمسهم حاجة).
وقال النخعي: إن كانت قليلة.. جاز دفعها إلى صنف واحد، وإن كانت كثيرة.. وجب صرفها إلى جميع الأصناف.
وقال أبو سعيد الإصطخري: يجوز صرف زكاة الفطر إلى ثلاثة من الفقراء أو المساكين أو غيرهم من الاصناف؛ لأنه يشق تفرقتها على جميع الأصناف.
وقال المزني، وأبو حفص بن الوكيل: يجوز صرف ما يؤخذ من الركاز إلى أهل الفيء. وهو قول أبي حنيفة.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60]. فأضافها إليهم بلام التمليك، وعطف بعضهم على بعض بواو التشريك، فصار كما لو قال: هذه الدار لزيد وعمرو.
وإن كان الذي يفرق الزكاة هو الإمام.. لم يجز له أن يحرم واحدا من أصناف البلد من زكاة أهل البلد، ولكن له أن يدفع زكاة الرجل الواحد إلى الفقير الواحد، فالإمام في قسم جميع الصدقات كالرجل في قسم زكاة نفسه.
فإن أخذ الإمام من رجل زكاته، وكان الدافع مستحقا لأخذ الزكاة، فدفع الإمام إليه زكاته بعينها.. أجزأه؛ لأن ذمته قد برئت بتسليمها إلى الإمام، وإنما رجعت إليه بسبب آخر.
فإن دفع رب المال زكاته إلى الساعي.. عزل الساعي ما يستحقه من الزكاة، ويفرق الباقي على باقي الأصناف إن كان الإمام قد أذن له في ذلك، وإن لم يأذن له الإمام في تفرقتها.. حملها إلى الإمام، فيقسمها على ثمانية أسهم: سهم للعامل، وهو أول ما يبدأ به؛ لأنه يأخذه عوض عمله، وغيره يأخذه مواساة. فإن كان ذلك وفق أجرته.. دفعه إليه، وإن كان أكثر من أجرته.. رد الفضل على باقي الأصناف، وقسمه بينهم. وإن كان أقل من قدر أجرته.. قال الشافعي: (يتمم له من سهم المصالح).
قال: (ولو تمم له من حق سائر الأصناف.. لم يكن به بأس).
واختلف أصحابنا في ذلك:
فذهب المزني وغيره من أصحابنا: إلى أنها على قولين:
أحدهما: يتمم من حقوق سائر الأصناف؛ لأنه يعمل لهم كالأجير الذي ينقل المال.
والثاني: يتمم من سهم المصالح؛ لئلا ينقص كل صنف مما قسم الله له.
ومن أصحابنا من قال: ليست على قولين، وإنما الإمام بالخيار: بين أن يتممه من سهم المصالح؛ لأن العامل يشبه الحاكم، وبين أن يتممه من حق سائر الأصناف؛ لأنه يشبه الأجير لهم.
ومنهم من قال: هي على اختلاف حالين:
فحيث قال: (يتمم من سهم المصالح) أراد: إذا كان قد فرق على سائر الأصناف، ثم وجد سهم العامل ينقص عن أجرته؛ لأنه يشق استرجاع ذلك منهم.
وحيث قال: (يتمم من حق سائر الأصناف) إذا بدأ بدفع سهم العامل قبل الأصناف.
ومنهم من قال: بل هي على حالين آخرين:
فالذي قال: (يتمم من سهم المصالح) إذا كانت أسهم الأصناف لا تفضل عن حاجتهم.
والذي قال: (يتمم من سهم الأصناف) إذا كانت تفضل عن حاجتهم.
والصحيح: أنها على قولين.
ويعطى العريف والحاشر من سهم العامل؛ لأنهم من جملة العمال، و (العريف): من يعرف العامل إذا دخل البلد أهل الصدقات إن كان غريبا، و (الحاشر): الذي يحشرهم إليه، أي: يستدعيهم.
وكذلك: إن احتاج العامل أن ينصب من يجبي الصدقات، ويحصي أهل السهمان، وقدر حاجاتهم.. فله أن ينصب من يقوم بذلك؛ لأنه لا يمكنه فعل ذلك كله بنفسه، ويعطيهم من سهمه.

.[فرع: جلب الصدقات على أصحاب الأموال]

ومؤنة إحضار الماشية ليعدها على رب المال؛ لأنها للتمكن من الاسيفاء، وأجرة الحافظ للصدقة وناقلها، وأجرة البيت الذي تكون الصدقة فيه على أهل السهام، ويجوز أن يكون الحافظ والناقل هاشميا أو مطلبيا، وجها واحدا؛ لأنه أجير في الحقيقة.
وإن وجب على رب المال دراهم، أو طعام، فاحتيج إلى من يزن ذلك، أو يكيله.. فعلى من تجب أجرته؟ فيه وجهان:
أحدهما قال أبو علي بن أبي هريرة: تجب على رب المال؛ لأن ذلك للإيفاء، والإيفاء واجب عليه.
والثاني قال أبو إسحاق: تجب على أهل السهمان؛ لئلا يزاد على الفرض الذي أوجبه الله تعالى عليه.
فأما أجره من يكيل أو يزن للقسمة بين أهل السهمان: فإنها تجب عليهم، وجها واحدا.
فإن قبض العامل الصدقة، فتلفت في يده من غير تفريط.. قال صاحب الفروع: استحق أجرة عمله في بيت المال.

.[مسألة: سهم الفقراء]

وسهم للفقراء؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} الآية [التوبة: 60].
و (الفقير): إذا أطلق اسمه.. تناول الفقير والمسكين، وكذلك: إذا أطلق اسم المسكين.. تناول المسكين والفقير، وإذا جمع بينهما.. كان معنى أحدهما غير معنى الآخر.
فأما صفة الفقير: فنقل المزني، عن الشافعي في القديم: (الفقير: الزمن الضعيف الذي لا يسأل الناس).
وقال في الجديد: (الفقير: هو الذي لا شيء له، زمنا كان أو غير زمن، سواء سأل أو لم يسأل).
فقال البغداديون من أصحابنا: (الفقير): هو الذي لا شيء له، أو له شيء لا يقع موقعا من كفايته، مثل: أن يحتاج كل يوم إلى عشرة دراهم، وهو يكتسب كل يوم ثلاثة أو أربعة سواء كان صحيحا أو زمنا، وسواء سأل أو لم يسأل، وإنما اختصر الشافعي العبارة عنه في القديم، وبسطها في الجديد؛ لأنه قد يسأل ولا يعطى، وقد يعطى من غير سؤال، وقد يكتسب الزمن، ولا يكتسب الصحيح.
وحكى المسعودي [في الإبانة \ ق\ 456] أن من أصحابنا من قال: هل من شرط الفقير أن يكون متعففا عن السؤال؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يشترط؛ لما ذكرناه.
والثاني: يشترط؛ لأن حال المتعفف أشد.
إذا ثبت هذا: فكم يعطى الفقير من الزكاة؟ فيه وجهان:
أحدهما: وهو قول ابن القاص في " المفتاح " -: أنه يعطى قوت سنة له ولعياله؛ لأن الزكاة تجب في كل سنة، فاعتبر كفايته بها.
والثاني - وهو قول سائر أصحابنا وهو المنصوص للشافعي -: (أنه يعطى ما يخرجه من حد الفقر إلى الغنى، وهو ما تحصل به الكفاية على الدوام)؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تحل المسألة إلا لثلاثة: رجل تحمل حمالة، فحلت له المسألة حتى يصيبها، ثم يمسك، ورجل أصابت ماله جائحة، فاجتاحت ماله، فحلت له المسألة حتى يصيب سدادا من عيش، أو قواما من عيش، ورجل أصابته فاقة أو حاجة، حتى يشهد، أو يقول ثلاثة من ذوي الحجا من قومه: إن به فاقة وحاجة، فحلت له المسألة حتى يصيب سدادا من عيش، أو قواما من عيش، ثم يمسك». فأجاز له المسألة إلى أن يصيب ما يسده.
وأما قوله: ثلاثة من قومه فعلى سبيل الاستظهار لا على سبيل الشرط.
فعلى هذا: إذا كان من عادته التعيش بالخمسة، أو بالعشرة.. أعطي ذلك لا غير، وإن كان من البزازين الذين لا يحسنون التجارة إلا بألف أو ألفين.. أعطي ذلك، وإن كان من أهل الضياع.. أعطي ما يشتري به ضيعة تكفيه غلتها على الدوام.
فإن عرف لرجل مال، فادعى أنه افتفر.. لم يقبل حتى يقيم البينة؛ لأنه قد عرف غناه، وإن لم يعرف له مال، وادعى أنه فقير.. قبل قوله، ولا يكلف إقامة البينة؛ لأن الأصل في الناس الفقر، ثم يرزق الله تعالى.

.[فرع: فيمن له كسب يكفيه]

إذا كانت له حرفة يكتسب بها ما يمونه ويمون عياله على الدوام.. فإنها تجري مجرى الغنى في المال في أنه لا تحل له الزكاة، وفي إيجاب نفقة قريبه الفقير المعسر عليه، وفي أنه لا تجب على قريبه الموسر نفقته؛ ولكنها لا تجري مجرى الغنى بالمال لإيجاب الحج عليه، ولا لقضاء الدين عليه.
وقال مالك: (يجوز أن يدفع إليه الزكاة، إذا كان فقيرا من المال وإن كان مكتسبا).
وقال أبو حنيفة: (إذا لم يملك نصابا من المال.. جاز أخذ الزكاة).
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا تحل الصدقة لغني، ولا لقوي مكتسب»، ولأنه قادر على كفايته على الدوام، فأشبه الغنى بالمال.
إذا ثبت هذا: وجاء رجل يطلب الزكاة، وادعى أنه لا كسب له، فإن كان شيخا ضعيفا، أو شابا ضعيف البنية.. قبل قوله؛ لأن الظاهر من حاله يشهد له، وإن كان شابا قويا.. فهل يقبل قوله من غير يمين؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يقبل؛ لأن الظاهر أنه يقدر على الكسب.
والثاني: يقبل؛ لما روي: «أن رجلين سألا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الزكاة، فصعد بصره إليهما، ثم صوبه، وقال: أعطيكما بعد أن أعلمكما: أنه لا حظ فيها لغني، ولا لقوي مكتسب». ولم يحلفهما النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والظاهر: أنهما كانا جلدين.

.[مسألة: سهم المساكين]

وسهم للمساكين؛ للآية.
والمسكين - عندنا -: أحسن حالا من الفقير، وهو الذي له شيء يقع موقعا من كفايته، ولكن لا يكفيه، مثل: أن يحتاج كل يوم إلى عشرة، وليس عنده إلا ثمانية؟ أو تسعة، وبه قال جماعة من أهل اللغة.
وقال مالك، وأبو حنيفة وأصحابه، ومحمد بن مسلمة، وكثير من الفقهاء، وأهل اللغة: المسكين أمس حاجة من الفقير، وهو بصفة الفقير الذي ذكرناه، واختاره أبو إسحاق المروزي من أصحابنا.
دليلنا: أن الله تعالى قال: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60]. فبدأ بالفقراء، والعرب تبدأ بالأهم فالأهم. لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتعوذ من الفقر»، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كاد الفقر أن يكون كفرا». وكان يقول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللهم أحيني مسكينا، وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين».
ولأن الفقير من لا ظهر له؛ لأن الفقار هو الظهر، ولهذا سمي سيف علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ذا الفقار؛ لأنه كان له ظهر.
إذا ثبت هذا فكم يعطى المسكين؟
على قول أبي العباس بن القاص: يعطى ما يتم به قوت السنة.
وعلى المنصوص: (يعطى ما تزول به حاجته، وتحصل به الكفاية على الدوام).
وقال أبو حنيفة (إذا كان مالكا لنصاب من الأثمان.. لم يجز له أخذ الزكاة، وكذلك: إذا كان مالكا لقيمة نصاب، ويفضل عن مسكنه وخادمه.. لم يجز له أخذ الزكاة).
وقال عمر، وعلي، وسعد بن أبي وقاص: (إذا ملك خمسين درهما.. لم تحل له الزكاة). وهو قول الثوري، وأحمد، وابن المبارك. وقال الحسن: (لا يعطى من الصدقة من له أربعون درهما).
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تحل المسألة إلا لثلاثة. فذكر: أو رجل أصابته فاقة، فحلت له المسألة، حتى يصيب سدادا من عيش، أو قواما من عيش». ولم يفرق.
ولأنه غير قادر على كفاية على الدوام، فأشبه من لا يملك شيئًا.

.[فرع: دعوى الفقير العيال]

وإن ادعى الفقير أو المسكين: أن له عيالا.. فهل يقبل قوله من غير بينة؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد:
أحدهما: يقبل، كما يقبل قوله: إنه غير مكتسب.
والثاني: ولم يذكر في "المهذب" غيره: أنه لا يقبل؛ لأنه يمكنه أن يقيم البينة على العيال، بخلاف الاكتساب.

.[مسألة: سهم المؤلفة]

وسهم للمؤلفة، والمؤلفة: صنف من أهل الصدقات؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} [التوبة: 60].
وإنما سموا مؤلفة؛ لأنهم يتألفون بالعطاء، وتستمال قلوبهم بذلك.
وهم ضربان: مسلمون وكفار.
فأما الكفار: فضربان:
أحدهما: قوم لهم شرف وسؤدد وطاعة في الناس، وحسن نية في الإسلام، فيعطون استمالة لقلوبهم، وترغيبا لهم على الإسلام، كصفوان بن أمية، وعامر بن الطفيل.
والضرب الثاني: قوم من الكفار لهم قوة وشوكة، وإذا أعطاهم الإمام مالا.. كفوا شرهم عن المسلمين وإذا لم يعطهم.. قاتلوا المسلمين، وأضروا بهم، وقد كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعطي هذين الضربين من خمس الخمس، ولا خلاف أنهم لا يعطون من الزكاة؛ لأنهم كفار، وهل يعطون اليوم من خمس الخمس؟ فيه قولان:
أحدهما: يعطون لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد أعطاهم، ولأنه قد يوجد المعنى الذي كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعطيهم لأجله.
والثاني: لا يعطون؛ لأن عمر وعثمان وعليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لم يعطوهم، وقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (إنا لا نعطي على الإسلام شيئا، فمن شاء فليؤمن ومن شاء.. فليكفر). وأما إعطاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهم: فلأن خمس الخمس كان ملكا له، يفعل فيه ما شاء.
وأما مؤلفة المسلمين: فعلى أربعة أضرب:
أحدها: قوم لهم شرف وسؤدد، ولهم نظراء من قومهم كفار، إذا أعطوا هؤلاء.. رغب نظراؤهم في الإسلام، مثل: الزبرقان بن بدر، وعدي بن حاتم.
والثاني: قوم لهم شرف وطاعة، أسلموا ونياتهم في الإسلام ضعيفة، فيعطون لتقوى نياتهم، و: «قد أعطى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبا سفيان بن حرب، وصفوان بن أمية، والأقرع بن حابس، وعيينة بن حصن، كل واحد منهم مائة من الإبل، وأعطى العباس بن مرداس أقل من مائة، فاستعتب، فتمم له المائة». فيحتمل ذلك تأويلين:
أحدهما: أن يكون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ظن أن نيته أقوى من نيات أصحابه في الإسلام، فنقصه، فلما استعتب.. بان أنه بخلاف ذلك، فتمم له المائة.
والثاني: يحتمل أن يكون العباس خشي أن يلحقه النقص في أعين الناس إذا نقص عن عطية نظرائه، فاستعتب لذلك.
وهل يعطى هذان الفريقان بعد موت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يعطون؛ لأن الله تعالى قد أعز الإسلام، فأغنى عن التألف بالمال.
والثاني: يعطون؛ لأنه قد يوجد المعنى الذي أعطاهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأجله.
فإذا قلنا: بهذا: فمن أين يعطون؟ فيه قولان:
أحدهما: من سهم المؤلفة من الزكاة؛ للآية.
والثاني: من سهم المصالح؛ لأن في ذلك مصلحة.
والضرب الثالث: قوم من المسلمين في طرف بلاد الإسلام، ويليهم قوم من الكفار، فإن أعطاهم الإمام مالا.. قاتلوهم ودفعوهم عن المسلمين، وإن لم يعطهم.. لم يقاتلوهم، واحتاج الإمام إلى مؤنة ثقيلة في تجهيز الجيوش إليهم.
الضرب الرابع: قوم من المسلمين، ويليهم قوم من المسلمين عليهم صدقات، ولكن لا يؤدونها إلا خوفا ممن يليهم من المسلمين، فإن أعطاهم الإمام شيئا.. جبوا صدقات من يليهم، وأدوها إلى الإمام، وإن لم يعطهم الإمام شيئا.. احتاج الإمام إلى مؤنة ثقيلة ليجهز من يجبيها منهم.
فهذان الضربان يعطون بلا خلاف على المذهب، ومن أين يعطون؟
فيه أربعة أقوال:
أحدها: من سهم المصالح؛ لأن ذلك مصلحة.
والثاني: من سهم المؤلفة في الزكاة؛ للآية.
والثالث: من سهم سبيل الله تعالى؛ لأنهم في معنى المجاهدين.
والرابع: أنهم يعطون من سهم سبيل الله تعالى ومن سهم المؤلفة؛ لأنهم جمعوا معنى الصنفين.
واختلف أصحابنا في هذا القول على ثلاثة أوجه:
ف الأول: منهم من قال: إنما ذلك إذا قلنا: إن الشخص الواحد إذا جمع سببين من أسباب الصدقات.. أعطي بهما، فأما إذا قلنا: لا يعطى إلا بأحدهما.. لم يعط هؤلاء إلا من سهم أحد الصنفين.
والثاني: منهم من قال: يعطون من السهمين على القولين؛ لأن القولين فيمن يأخذ الزكاة لحاجته إلينا. فأما هؤلاء: فإنهم يأخذون لحاجتنا إليهم، فأعطوا منها، قولا واحدا.
و الثالث منهم من قال: لم يرد الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه يجمع لهم من السهمين، وإنما أراد: أن من يقاتل الكفار.. يعطون من سهم سبيل الله، ومن يجبي الصدقات من المسلمين.. يعطون من سهم المؤلفة. هذا مذهبنا.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (قد سقط سهم المؤلفة، فلا سهم لهم).
دليلنا: الآية، فإن ادعى رجل: أنه من المؤلفة.. فأمرهم ظاهر، ولا يعطى حتى يثبت أنه منهم.